نستكمل الأفكار الكبيرة ولكن على عُجالة! لهذا المقال جزء سابق يمكنك قراءته من هنا
فكرة كبيرة (5): أين يحدث التغيير المناخى فعليا على كوكبنا ؟
المتحدث : سوزن سُلومون ، أستاذ المناخ و علم الأرض بمعهد ماستشوستس للتقنية
أين يحدث التغير المناخى فعليا على كوكبنا ؟ قد تبدو الإجابة على هذا السؤال غاية فى السهولة و هى "أن التغيرات المناخية يبدو تأثيرها أكثر وضوحا عند أقطاب كوكب الأرض ، و يتلخص هذا التأثير فى الذوبان التدريجى للجليد عند كلا القطبين الشمالى و الجنوبى". و لكن تلك الإجابة ليست بالدقة المطلوبة و لذلك فضلت بروفيسور "سُلومون" الإجابة عن هذا التساؤل بإجراء المزيد من الأبحاث المتأنية متحرية الدقة هذه المرة و جاءت النتائج على عكس التوقعات...تماما!
بدراسة تغيرات المناخ على مدار 127 عاما منذ 1884 و حتى 2011 على الخرائط المناخية لكوكب الأرض، يمكن ملاحظة أن مقدار الزيادة فى درجة الحرارة تختلف من مكان لآخر حول العالم بل أن بعض المناطق لم تبدى أى إرتفاع فى درجات الحرارة على الإطلاق طوال هذه المدة. و لكن النتيجة المؤكدة من خلال دراسة تلك الخرائط أن المنطقة المدارية المحصورة بين مدارى الجدى و السرطان جغرافيا هى الأكثر إرتفاعا فى درجة الحرارة من أى مكان آخر فى العالم و ليس عند الأقطاب كما كنا نعتقد! إن المناطق المدارية أبدت إرتفاعا بمعدل ثابت فى درجة الحرارة بمقدار أجزاء من الدرجة على مدار 127 عام حتى وصلت الآن إلى أرتفاع بمقدار 0.7 درجة مئوية بفعل الأنشطة البشرية المسببة للإحتباس الحرارى و على النقيض تماما نجد المناطق القطبية و المناطق أعلى و أسفل المنطقة المدارية أبدت تغيرات أكثر عشوائية بين إرتفاع تارة و إنخفاض تارة أخرى من ثم فإن النتائج المترتبة على الإحتباس الحرارى لن تشاهد هناك بل فى المناطق المدارية حيث الإرتفاع المتزايد فى درجة الحرارة. و من المثير للدهشة حقا أن معدل إنبعاثات الغازات الدفيئة لكل شخص فى السنة فى الولايات المتحدة يزيد بـ 10 أضعاف عنه كولومبيا ، و يزيد بـ 400 ضعف فى جمهورية الكونجو الديموقراطية، فى الوقت الذى تقع فيه هاتين البلدتين على خطوط المواجهة الأمامية مع الإحترار العالمى على عكس الولايات المتحدة الأمريكية! لكن ماذا عن تأثير هذا إرتفاع الحرارة فى تلك المنطقة على المحاصيل و المياه و الحيوانات و البشر؟ هذا هو السؤال الذى ما زال ينتظر الإجابة.
فكرة كبيرة (6) : الصراع بين الأم و الجنين أثناء الحمل!
المتحدث : دافيد هيج ، أستاذ البيولوجيا بجامعة هارفرد
منذ بدء الخليقة تواجه الأم الحامل و جنينها مخاطر عدة أثناء الولادة، و على مر العصور الكثير من الأمهات توفين و أطفالهن خلال فترة الحمل و أثناء عملية الوضع. فى الحالات الطبيعية تتبع أعضاء الجسم فى عملها نظاما ثابتا لا تحيد عنه ، لكن أثناء الحمل و الولادة يختل هذا النظام كليا و ينقلب رأسا على عقب. و تعود أسباب هذا الإختلال إلى أن جسم الأم ليس هو الوحيد المتصرف فى أثناء فترة الحمل ، لكن ما يحدث الآن هو تفاعل ما بين جسمين مختلفين يحمل كل منهما تركيبة جينية فريدة عن الآخر. و من وجهة نظر البيولوجيا التطورية و التى يتبناها بروفيسور "هيج" ، فإن جسم الجنين يعمل بما يكفل له أن يكون صحيحا و بالمثل يعمل جسم الأم بما يضمن لها أن تبقى على قيد الحياة ، لكن عمل كل منهما يكون فى إتجاه مضاد للآخر و يؤدى ذلك إلى نشوء تعارض فيما بين آلياتهما للبقاء و عندها يلجأ الجنين إلى التصرف بشئ من الطمع و لا يبالى بأى شئ سوى حصوله على الغذاء!
إن الإعتقاد السائد بأن الجنين يمكث غير فعال فى الرحم غير صحيح بالمرة ، لكن فى حقيقة الأمر فإنه يجد طريقه إلى جدار المشيمة فيبث فيها مواد معينة لتحث الأوعية الدموية أن تتوسع و تجلب له المزيد من الدم المحمل بالغذاء. و كنتيجة حتمية أثناء عملية الولادة بعد خروج الجنين و إزالة المشيمة ، تبقى الأوعية الدموية مفتوحة و تدفع بمزيد من الدماء فى الرحم لذلك تموت العديد من الأمهات بسبب النزيف.و فى حالة خاصة تحدث لـ 6% من النساء الحوامل تسمى "تسمم الحمل pre-eclimsia" ، يرتفع ضغط الأم الحامل بشكل خطير و يُعتقد أنه ليس إرتفاعا عرضيا بل مسببا من قبل الجنين الطماع الذى يبث مواد مجهولة فى مجرى دم أمه لترفع ضغط دمها! و هو ما يؤدى بدوره إلى تدفق المزيد من الدم عبر المشيمة محملا بالعناصر الغذائية الضرورية. و بالفعل أثبتت الأبحاث صحة نظرية بروفيسور "هيج"، فقد وُجد إرتفاع غير مبرر فى نسبة بروتين "sFlt1" فى دم الأم مسببا إرتفاع فى ضغط الدم و كما توقع "هيج" تماما ، البروتين ليس مصدره الأم ...و إنما الجنين!
فكرة كبيرة (7): كيف يقوم المخ بالحكم الأخلاقى على الأشياء؟
المتحدث: ليان يونغ ، أستاذ مساعد بعلم النفس ، جامعة بوسطن
كيف يحكم الإنسان على فعل ما إذا كان أخلاقى أم غير أخلاقى؟ لا يوجد إجابة مباشرة على هذا السؤال لأنه يعتمد على المعايير التى تتعبها فى حكمك على الأفعال : فهل أنت تحكم على أفعال الشخص بحسب نيته بغض النظر عن نتيجة أفعاله؟ أم أنك تحكم عليه بناءا على النتيجة النهائية لفعله بغض النظر عن نيته؟ و لذلك قد يبدو فعلا ما من وجهة نظرك أخلاقى و لكنه من وجهة نظر شخص آخر غير أخلاقى. و لأن تلك الأحكام لابد و أن تكون نابعة من مكان ما بالمخ ، قامت د. يونغ بتصوير أدمغة أشخاص تحت الدراسة أثناء قيامهم بإطلاق الأحكام على حالتين من الأفعال: الحالة الأولى هى "قتل غير متعمد": و فيها لم يكن لدى الفاعل نية للقتل و لكنه فى النهاية كان السبب فى موت الضحية عن طريق الخطأ ، أما الحالة الثانية فهى "محاولة قتل متعمد": بمعنى أن الفاعل كانت لديه نية مبيتة للقتل و لكنه لم ينجح فى تحقيق نيته.
بالطبع إختلفت أحكام الأشخاص محل التجربة على هاتين الحالتين بناءا على منظورهم. فإذا كان الشخص يحكم من منظور أن الفاعل يحاسب على نيته و ليس نتيجة فعله، يسجل جهاز التصوير لدى هؤلاء نشاطا زائدا فى منطقة معينة من المخ معروفة بإسم "الفص الصدغى الأيمن". أما الأشخاص الذين قاموا بالحكم على الفاعل بناءا على نتيجه فعله فيبدى هؤلاء نشاطا ضعيفا فى منطقة الفص الصدغى الأيمن عند تصوير الدماغ. و لأن الفص الصدغى الأيمن يبدو أنه يلعب دورا هاما فى مسألة الحكم بناءا على نوايا الأشخاص، فلابد و أن تعطيله سوف يغير من الطريقة التى ينتهجها الشخص للحكم على الأمور ، و بالفعل إستخدمت "يونغ" تقنية "TMS" لتعطيل منطقة الفص الصدغى الأيمن بشكل مؤقت لثوانى معدودة ، و خلال هذه الثوانى يعاد عرض الحالتين على الأشخاص محل التجربة و تكون المفاجأة أن الأشخاص الذين كانوا يحكمون مسبقا بحسب النية صاروا الآن يحكمون بناءا على النتائج النهائية! و بوضع أشخاص مصابون بمرض التوحد تحت الإختبار وُجد أنهم أيضا يحكمون بناءا على النتائج النهائية بغض النظر عن النوايا لذا فمن الواضح أن منطقة الفص الصدغى الأيمن لديهم معطلة تلقائيا. الخبر الجيد فى النهاية أننا بالرغم من عدم علمنا ما يدور فى دماغ الناس إلا أننا نهتم كثيرا بمعرفة ما يدور هناك و لذلك فإن دماغنا مجهز للقيام بتلك المهمة.
فكرة كبيرة (8): العودة إلى المدن فى العصر الرقمى
المتحدث: إدوارد جليسر ، أستاذ الإقتصاد بجامعة هارفرد
فى القرن التاسع عشر كان أغلب سكان الولايات المتحدة الأمريكية يميلون إلى شغل المساحات الفارغة عوضا عن التكدس فى مكان واحد ، لكن منذ بداية القرن الحادى و العشرين نجد المزيد و المزيد ينزحون إلى المدن بالرغم من إكتظاظها سلفا. و لذلك فإن معرفة أن نسبة 50% من سكان العالم يقطنون فى المدن لا تبدو مفاجأة بل و من المتوقع لها الزيادة. تلك الكثافة المتزايدة ترتبط إرتباطا مباشرا بمتوسط دخل الفرد فى تلك المدن، فبالمقارنة بين المقاطعات الأمريكية وُجد أن الأكثر إزدحاما بالسكان من بينها يتمتع أفرادها بمستوى دخول أعلى بنسبة 50% عن الأفراد فى المقاطعات الأخرى الأقل إزدحاما منها. إذن فقد كان "غاندى" مخطئا حينما قال "إن نمو الأمة لن ينبع من مدنها بل من قراها" ، فإن نموالهند يقوده سكان المدن.
لماذا يختار الناس الإقتراب من بعضهم البعض و التكدس فى المساحات الضيقة؟ بالرغم من التطور الثورى فى تكنولوجيا الإتصالات و الإنترنت، فلماذا لم تندثر المدن ؟ السبب فى ذلك أن البشر كائنات إجتماعية ، و الكائن البشرى يستمد ذكائه من وجود بشر أذكياء من حوله و هذا هو ما توفره المدن بما فيها من تكدس و إكتظاظ. إن المدن آلات للتعلم فإننا نولد بموهبة فطرية و هى المقدرة على التعلم مِن مَن هم حولنا من آبائنا و أمهاتنا و أقربائنا . و هو الأمر الذى يزيد من قدرة سكان المدينة على الإبداع و خلق أفكار جديدة تؤدى بدورها إلى إرتفاع ملحوظ فى متوسط دخول الأفراد فى المدن المكتظة عن غيرها من الأقاليم و الريف.
و إلى هنا تنتهى الأفكار الكبيرة ، مخلفة ورائها تساؤلات أكبر ...و بالعلم وحده تكون الإجابة.