السبت، 8 أكتوبر 2011

توأم ملتصق:رأس واحد...معا إلى الأبد

التوأم السودانى ريتال و ريتاج تستقبلان العالم منفصلتين لأول مرة فى يوم 19 من سبتمبر الماضى، بعد عام من ولادتهما متحدتين من جهة الرأس. فى جراحة ناجحة تمت مقسمة على 4 مراحل تم خلالها فصل التوأم فى لندن بفضل مجهودات 15 جراح وضعوا أقصى ما يمتلكونه من مهارات و قدرات طبية و جراحية لإنقاذ هاتين الطفلتين بالرغم من كون الجراحة محفوفة بالمخاطر لتشارك الأختين العديد من الأوعية الدموية بالمخ.



التوأم المسخ

رغم حالة التوأم السودانى النادرة إلا أنها ليست الأولى من نوعها، إنما هى حالة موثقة و مسجلة منذ الأزل. وفق التتبع التاريخى لحالة التوائم متحدة الرأس وجدت أول حالة موثقة بمدينة بافاريا الألمانية فى القرن الخامس عشر تحت تصنيف "مسخ monster " و قد فُسرت حالة المسخ أنذاك أنه قد ولد لهذه السيدة كتحذير إلهى لسوء أفعالها!! أشهر حالة لتوأم متحد الرأس كانت فى القرن السابع عشر لتوأم بنغالى، بمجرد أن ولدتهما أمهما ألقت بهما فى النيران و لكن تم إنقاذهما و عاشا لمدة 4 سنوات إلى أن توفيا جراء لدغة ثعبان (مرة أخرى كتحذير إلهى)!! و تحفظ جمجمتهما الآن فى الكلية الملكية للجراحين بلندن.

جمجمة التوأم البنغالى

ساد تصنيف "المسوخ" للتوائم المتحدة من جهة الرأس لقرون عديدة حتى قام الطبيب أوجست فورستر فى القرن الثامن عشر بإدراج مصطلح طبى جديد ليصف حالة هؤلاء التوائم تحت إسم "التوأم متحد القحفية Craniopagus twins ". "القحف" فى اللغة العربية يطلق على ما تكسر من الجمجمة أو ما قطع منها لذلك نجد المعنى ينطبق على حالة التوأم المتحد الذى يمتلك كل منهما جمجمة غير مكتملة . ظاهرة التوأم المتحد عموما نادرة الحدوث تقدر بـ 10 إلى 20 حالة لكل مليون ولادة بالولايات المتحدة الأمريكية أما ظاهرة التوأم متحد القحفية فهى تعد أكثر ندرة تقدر بـ 0.6 حالة لكل مليون ولادة.

نسبة 40 % من التوائم المتحدة القحفية تتوفى داخل الرحم و نسبة 33 % أخرى تموت فى الفترة التى تلى الولادة مباشرة بسبب العيوب الخلقية الغير قابلة للعلاج. فى حالات أخرى يعيش التوأم المتحد القحفية لفترات أطول بعد الولادة و لكنها حالات نادرة حيث أن 90 % منهم يلقى حتفه كحد أقصى قبل العاشرة من عمره و منهم من يبقى على قيد الحياة مثل التوأم الإيرانى لاليه بيجانى و لادان بيجانى اللتان عاشتا حتى سن 29 عام و عملتا بمهنة المحاماة إلى أن أجريت عملية فصلهما التى أنتهت بالوفاة. و التوأم إيفون مكارثر و إيفيت مكارثر ،ولدتا بلوس انجلوس عام 1949 و تعذرت عملية فصلهما نظرا لعمق الإتحاد فيما بينهما و عاشتا حتى الأربعينات من عمريهما ،مباشرة قبل حصولهما على شهادة التمريض.

التوأم مكارثر

لماذا التوأم المتحد؟

ولادة التوأم المتحد القحفية أو أى نوع آخر من الإتحاد و المعروف بين عموم الناس بـ"التوأم الملتصق" من جهة الصدر أو الحوض أو غيرها ، كلها ظواهر غير معروف سببها الطبى حتى الآن . عملية تكوين التوأم فى رحم الأم تتم عن طريق تلقيح بويضة واحدة بحيوان منوى واحد لتكوين الجنين ، إلا أنه فى بعض الأحيان خلال فترة الـ 12 يوم الأولى بعد التلقيح قد تنقسم البويضة الملقحة إلى جزئين أو أكثر و عندها يتكون أكثر من جنين ، من ناحية أخرى يعتقد أنه إذا ما حدث الإنقسام للبويضة بعد اليوم الثالث عشر إلى الرابع عشر من التلقيح عندها يتوقف الإنفصال قبل أن تكتمل العملية تماما و هو ما ينتج عنه توأم متحد من جهة الرأس أو الصدر أو قاعدة العمود الفقرى أو السرة أو الحوض، و فى قول آخر يتم الإلتحام بين الجنينين بطريقة ما فى مرحلة ما أثناء تكونهما. لا تعتمد ظاهرة التوأم المتحد على أى عوامل أخرى مثل العرق أو سن حمل الأم أو الجينات الوراثية أو المؤثرات البيئية.

تصنيف فورستر لحالات التوائم المتحدة

توأم القحفية

نعود إلى حالة التوأم متحد القحفية، نجد أنه ليس نوع واحد فحسب، لكن يمكن تقسيمه وفقا لمدى عمق الإتحاد إلى جزئى أو كلى. دكتور "أو كونيل" هو أول من وضع هذا التصنيف مفسرا أن الإتحاد الجزئى يتضمن جزء صغير من القحفية بدون تشوهات أو تغيرات كبيرة لكن الكلى ينتج عن مشاركة جزء كبير من القحف و إتصال عميق داخل الفجوة القحفية. و لتصنيف أكثر دقة قسم "كونيل" الإتحاد الكلى إلى إتحاد أمامى و جدارى و صدغى و خلفى (شاهدهم على الترتيب فى الصورة التالية).



تتوقف خطورة هذا الإتحاد القحفى على صحة التوأم بناءا على مدى التداخل بين "الجيوب الوريدية الجافية Dural venous sinuses". تلك الجيوب هى القنوات التى تسرى فيها الأوعية الدموية التى تحمل الدم من المخ و تقوم بتجميعه و تعيده إلى القلب لكى يحمله بالأكسجين و يعيد ضخه إلى الجسم مرة أخرى .تلك الأوعية الدموية تسمى الأوردة (ومفردها وريد) و هى تسرى فى الطبقة العلوية من المخ و المعروفة بإسم"الأم الجافية" و من هنا جاء إسمها "الجيوب الوريدية الجافية". لذا فإننا إذا أردنا إعادة تعريف الإتحاد الجزئى و الكلى فيمكننا القول أن الإتحاد الجزئى لا يتضمن مشاركة خطيرة لكل من التوأمين فى الجيوب الوريدية الجافية أما فى الإتحاد الكلى فإن المشاركة و الترابط بين نظامى الجيوب الوريدية الجافية لكل من مخى التوأمين يكون بالغ التعقيد و هنا تكمن المشكلة.لا يقتصر التشارك على الجيوب الوريدية فحسب لكنه يشمل أيضا القشرة المخية و هى تلك الطبقة المتعرجة على سطح المخ و تكون مسئولة عن الإدراك و الحواس و اللغة لدى الإنسان أى أن التضرر فيها يعنى خسارة الحواس الأساسية لحياة الإنسان.

نظام الجيوب الوريدية الجافية

التداخل واضح بين الجيوب الوريدية للأختين الإيرانيتين بيجانى

إذا عدنا إلى حالة التوأم ريتال و ريتاج فى بداية هذا المقال، فإنهما كانتا تتشاركان جزءا لا بأس به من الأوردة و هو الأمر الذى شكل حمل زائد على قلب ريتاج، فقد كان يسحب جزء من الدم الخاص بمخ أختها ريتال لتحمله بالأكسجين ثم تعيد ضخه إلى مخ ريتال مرة أخرى فشكل خطرا على حياة ريتاج لحساب حياة ريتال.

فصل التوأم متحد القحفية

و هو ما يقودنا إلى سؤال بالغ الأهمية ، متى يكون قرار فصل التوأم المتحد القحفية صائبا؟ بالطبع لا يوجد إجابة محددة لهذا السؤال لأن كل حالة مستقلة بذاتها عن أى حالة أخرى، و هو ما يستلزم لكل توأم متحد القحفية دراسة متكاملة بداية من إكتشاف الحالة فى رحم الأم حتى إتمام عملية الفصل بنجاح.بداية عند إكتشاف حالة توأم متحد القحفية بإستخدام التصوير بالموجات فوق الصوتية ،هنا يقع على الأم و الأب عبئ إختيار إتمام عملية الحمل حتى نهاية أو إتخاذ قرار إجهاض التوأم إذا لم يكن الإكتشاف متأخرا. إذا ما إختار الأبوان ولادة التوأم هنا يتخصص فريق كامل من الأطباء يتلخص دورهم فى العناية بالأم و التوأم فى مرحلة ما قبل و ما بعد الولادة التى تكون قيصرية. بالنظر إلى حالة التوأم المتحد فى أغلب الأوقات يعانى كل من الوليدين أو أحدهما من مضاعفات صحية متمثلة فى إضرابات فى وظائف القلب و إرتفاع أو إنخفاض ضغط الدم .لا يتم فصل التوأم متحد القحفية فى تلك المرحلة الحرجة إذ يكون من الضرورى أولا السيطرة الطبية على الحالة الصحية للتوأم و فى الوقت نفسه الإنتظار لفترة كافية حتى يكبر التوأم بضع من الأشهر ، ليكونوا قد إكتسبوا خلالها بعض الوزن مع إستقرار فى الحالة الصحية مما يمكنهما تحمل صعوبات جراحة الفصل من فقدان وارد فى الدم و المقدرة على السيطرة على وظائفهم الحيوية خلال فترة الجراحة.

خلال تلك الفترة الإنتقالية حتى الجراحة، يجرى الأطباء عملية تصوير بالأشعة المقطعية و الرنين المغناطيسى من أجل تقدير مدى التداخل و الترابط بين الهيكل التشريحى للتوأم . من خلال تلك الصور و المسوح على الفريق الطبى معرفة العديد من النقاط الفارقة مثل إلى أى درجة يصل إتحاد فروتى الرأس و الجمجمة للتوأم ، و إلى أى حد يكون الإتحاد فى الأم الجافية و قشرة المخ المتعرجة بالإضافة إلى درجة الترابط و التداخل فى نظامى الأوردة و الشرايين الخاصة بكلا التوأمين و إذا ما كان هناك مشاركة فى الخلايا العصبية بالمخ. للمفارقة فى بعض الأحيان يثبت من الصور و المسوح أن التداخل لا يتضمن قشرة المخ و ما أنا يبدأ الجراحون فى عملية الفصل حتى يفاجئوا أمامهم بتداخل قد يصل إلى 5 سنتيمتر مربع بين قشرتى مخ التوأم و لذلك على الأطباء إتخاذ الإحتياطات اللازمة بتصوير التوأم بكل التقنيات الطبية الممكنة و أخذ أكثرها دقة كمرجع.

رسم ثلاثى الأبعاد ناتج من الصور و المسوح يوضح التداخل الوريدى

على أساس كل ما سبق يتحدد مسار عملية الفصل و التى غالبا ما تكون مقسمة على عدة مراحل يتحدد عددها على حسب حالة التوأم و مدى التداخل فيما بينهما و ذلك لأنه كلما كان التداخل أكثر تعقيدا بين الأوردة و الشرايين يصبح معدل فقد الدماء و إهدارها اكبر و سرعان ما يجد الجراح نفسه غارقا فى بركة من الدم و هو غالبا ما يؤدى فى النهاية إلى وفاة التوأم. إلا أن دكتور "أو كونيل" وجد أن تقسيم عملية الفصل على عدة مراحل خفض من نسبة الوفيات من 63% فى عمليات الفصل الغير مقسمة إلى 23 % فى عمليات الفصل المقسمة على مراحل و هى عملية تستغرق شهورا طويلة.أما إذا كانت عملية الفصل تشكل خطرا واضحا على حياة التوأم عندها يبقى التوأم كما هو على حاله ، مع مساندة الأبوين و التوأم للتأقلم مع وضعهم الحالى.

عملية فصل و لكن...

صحيح أن عمليات الفصل المقسمة خفضت من معدل وفيات التوائم متحدة القحفية ، لكنها لا تزال غير مثالية تماما لأن التقنية الأساسية المتبعة فى عمليات الفصل تقوم على التضحية بواحد من الطفلين فى سبيل أن ينجو الآخر و يعيش حياة سليمة و صحية. فى حالات التشارك العميق بين النظام الوريدى لكلا الطفلين لابد أن يكون هناك ترابط فى جزء رئيسى من الجيوب الوريدية الجافية معروف بإسم "الجيب السهمى العلوى". أما الطفل الذى يأخذ الجيب السهمى كاملا أثناء عملية الفصل هو من ينجو. عدم أخذ الطفل الآخر للجيب السهمى لا تعنى وفاته لكن غالبا ما يكون ذلك الطفل هو من يعانى من تأخر فى التعلم و الحركة و ربما بعض المضاعفات الصحية الأخرى.

نسترجع من أرشيف التوائم متحدة القحفية ، حالة لتوأم فلبينى تم فصله عام 2004 على يد الدكتور "جودريتش" ، كان واضحا فى هذه الحالة أن الطفل رقم"2" هو من يمتلك الجيب السهمى الوريدى لذلك عند الفصل أخذ ذلك الطفل الجيب السهمى بينما كان على الطفل رقم "1" أن يكيف دورته الدموية الوريدية الداخلية على نقص الجيب السهمى الوريدى و هو ما تم التأكد من حدوثه بالفعل قبل إتمام عملية الفصل.

رسم ثلاثى الأبعاد لحالة التوأم الفلبينى قبل الفصل

لكن بمتابعة الطفلين بات من الواضح أن الطفل رقم"2" الأكثر تطورا ، فهو أول من تكلم و مشى و وجدت لديه القابلية لتعلم أشياء جديدة. أما الطفل رقم "1" أصبح يعانى من نوبات تشنجية بعد عام واحد من الفصل و لكن أمكن التحكم بها عن طريق الدواء . كان كذلك أبطأ و أقل حماسة للإستجابة فى العلاج الطبيعى، فى البداية لم يعانى هذا الطفل من عيوب خاصة بالقدرات الحركية لكن ببطء مع الوقت أصبح مصابا بـ"متلازمة تجاهل" لنصفه الأيسر من الجسم أى أنه كان يستطيع إستخدام هذا النصف من جسده لكن يتجاهله و هو ما أخر من تعلمه المشى. بعد مرور خمسة أعوام أصبح الطفل رقم "1" يتحرك بشكل كامل ، و كل من الطفلين يتابع تعليمه المدرسى.

فى النهاية نقول أن العبرة ليست بنجاح عملية الفصل بل فيما بعد ذلك بمقدرة التوأم المنفصل على عيش حياة طبيعية تماما و قدرات ذهنية و حركية سليمة.فى بعض الحالات لا تظهر مشاكل صحية حتى بعد سنوات من الفصل مثلما فى حالة طفلتين أجريت لهما حالة الفصل عام 1977 ، و مع المتابعة الدائمة مع مرور السنوات للتوأم بعد الفصل ، تتطورت قدرتيهما اللغوية و الحركية بشكل كبير و لكنه لم يمنع من مواجهة الفتاتين لمعوقات دراسية تطلبت بعض الفصول الخاصة لإتمام تعليميهما الثانوى بنجاح. وصل الأمر فيما بعد بإحديهما للإصابة بشلل رباعى تشنجى بعد سنوات من عملية الفصل إنتهى بها إلى كرسى متحرك مع بقاء أختها سليمة بدون أى مضاعفات لعملية الفصل و عمرهما الآن 32 سنة.


التوأم قبل و بعد الفصل

هذا الأمر لم يحسم بعد فى حالة التوأم السودانى ريتال و ريتاج و لكن الأطباء لا يكون بأيديهم حيلة بعد إجراء عملية الفصل، ليس عليهم سوى المتابعة والإنتظار و ترك مرور السنوات لتحكم على دقة عملهم و إثبات نجاح أو فشل ما قاموا به.

المصادر:

1. SAMUEL R. BROWD,JAMES T. GOODRICH,MARION L. WALKER:Craniopagus twins. J Neurosurg Pediatrics 1:1–20, 2008

الصفحات