الأحد، 25 يوليو 2010

المادة المظلمة....جيب خفى فى معطف الكون



تجلس وحيدا فى ظلام دامس...تتطلع إلى السماء فى صمت و رهبة...تبدو امامك كقطعة من المخمل الأسود المرصع بالجواهر و الألماس...الكل يسبح فى فلكه الخاص....و يؤدى أبدع رقصاته الكونية ...فى لوحة فنية بديعة ...جمالها يحبس الأنفاس...قد يبدو لك ان كل شئ يتم بكل هدوء و سلاسة... لكن مهلا.... لا تتسرع فى حكمك على ما تراه من هذا الكون ...لو انتظرت قليلا لعلمت أن ما تراه الآن هو أقل بكثير مما هو متوقع أن تراه...و أن كوننا هذا يحوى جيوب خفية توارى ما لا تراه أعيننا و لا يدركه عقلنا...يحوى أكبر ألغاز البشرية على الإطلاق..."المادة المظلمة"







لغز الكتلة الضائعة

نحن الآن بصدد لغز كبير و محير إلى أقصى درجة...و لتبسيط هذا اللغز ...نبدأ بضرب مثال حى و بسيط من الواقع...فى حياتك اليومية العادية غالبا ما يصادفك موقف مثل فقدان مفاتيح سيارتك أو ضياع أحد مقتنياتك الشخصية...فتكون الخطوة التالية التى تقوم بها بعد ذلك...أن تقوم بالبحث عما هو مفقود منك ...فتبدأ بحثك بالأماكن المحتمل تواجد ما ضاع منك فيها...حتى ينتهى بك المطاف بأن تجده أو لا تجده....لكن ما بالك بجزء من كتلة الكون!....لا تندهش فجزء من كتلة كوننا مفقود حقا و لكن يستعصى علينا البحث عنها بالطريقة سالفة الذكر!!!

يزداد لغزنا تعقيدا و ضرب الامثلة لا يجدى نفعا...إذا يفضل أن نتجه إلى الطريقة التقليدية لسرد وقائع الأمور و نرجع بذاكرة التاريخ إلى الوراء...إلى ثلاثينيات القرن العشرين ،فى ذلك الحين إنصب اهتمام علماء الفلك على مجرات الكون فعكفوا على دراسة حركتها و حساب كتلتها بل و توزيعات هذه الكتلة بداخلها.
بادئ ذى بدء يمكن وزن أى مجرة بطريقة من إثنتين... إما عن طريق قياس مقدار كثافة الضوء أو اللمعان المنبعث من المجرة ...من هنا وبدلالة مقدار هذا اللمعان أو الانبعاث الضوئي يمكن حساب كتلة المجرة. أما عن الطريقة الثانية يمكننا القول أن سرعة دوران القرص المجرى هو العامل الأساسى لإيجاد الكتلة...و لكن كيف و ما معنى هذا الكلام؟


دعونا نأخذ مجرتنا درب التبانة كمثال و لنتعرف عليها عن قرب… نجد انها أشبه بقرص مستدير... مادته الأساسية هى البلايين من النجوم التى قد تكون مراكز لمجموعات شمسية شبيهه بنظامنا الشمسى. لو نظرنا إلى توزيع هذه النجوم فى المجرة نجد أنها تتزاحم و تزداد كثافة بالقرب من مركز المجرة كما تتوزع مئات قليلة منها من أعلى ومن أسفل القرص المجرى( كما فى الصورة).



عند دراستنا لمجرة درب التبانة سوف نفترض جدلا أنها تشبه قرص الحاسوب المدمج و لكى نكون أقرب إلى الواقع سوف نقوم بتصور هذا القرص المدمج و هو يدور و نحن كمجموعة شمسية و سكان لمجرة درب التبانة نعتبر كنقطة على هذا القرص المدمج و ندور معه . بطبيعة الحال فى رحلتنا للدوران حول مركز المجرة،يشاركنا الرحلة نجوم أخرى و يتخذ كل نجم مساره الخاص و سرعته الخاصة به للدوران على حسب بعده أو قربه من المركز فيسبقنا و يبتعد عنا البعض كما يقترب منا و يلحق بنا البعض الآخر. نظرا لطبيعة مجرتنا درب التبانة من تكدس نجومها قرب المركز و قلة تواجدها عند الاطراف إفترض العلماء أن سرعة النجوم قرب المركز لابد و أن تكون أكبر بكثير من سرعة تلك النجوم التى تقع عند الاطراف كما هو الحال فى مجموعتنا الشمسية نجد أن كوكب عطارد هو أكثر الكواكب قربا من الشمس- التى تمثل مركز كتلة المجموعة الشمسية- و هو كذلك أكثر الكواكب سرعة من حيث الدوران حول الشمس و كلما ابتعدنا عن الشمس مرورا بمجموعة الكواكب الداخلية ( عطارد و الزهرة و الارض و المريخ) و صولا إلى مجموعة الكواكب الخارجية ( المشترى و زحل و اورانوس و نبتون) تضمحل سرعة هذه الكواكب بصورة ملحوظة لبعدها الكبير عن مركز الكتلة ..الشمس.

و لكن من أجل اثبات وجهة النظر هذه ، بدأ العلماء بإستغلال ما توفره لهم التكنولوجيا المتاحة ،عن طريق الضوء الواصل الينا من كل نجم لحساب سرعته و اتجاهه سواء أكان مبتعدا أو مقتربا فى ظاهرة تعرف باسم تأثير دوبلر*.

و لكن كما نقول دوما تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن فالمشاهدات و القياسات العملية بإستخدام تأثير دوبلر لم تسفر عن النتائج المرجوة ...لم تثبت تطابق الاستنتاج النظرى مع العملى بل أتت بمفاجأة مذهلة و مدمرة لكل الإستنتاجات السابقة و هى أن البعد عن مركز المجرة لم يتسبب فى نقص سرعة دوران نجومها كما هو متوقع بل ظلت السرعة ثابتة على طول نصف قطر المجرة وصولا إلى الأطراف!!!



و تنكشف الحقيقة المظلمة....

أخذ العلماء فى التفكير بعمق كبير فى أسباب بقاء السرعة ثابتة على الرغم من تركز معظم نجوم درب التبانة فى المنتصف و نقصها كلما اتجهانا إلى الأطراف ؟أيعنى هذا أن الكتلة ليست مركزة فى المنتصف كما إعتقدنا؟
أفضى هذا التفكير فى النهاية إلى الإعتقاد بوجود كتل ما غير مرئية بالقرب من أطراف المجرة و هى التى قد سببت توزع الكتلة فى انحاء المجرة و ليس بالقرب من المركز فقط . و لعدم إمكانية رؤية هذه الكتل المجهولة أطلق على ما تحويه من مادة إسم " المادة المظلمةDark Matter " و ذلك لأنها لا تشع أو تعكس أى ضوء و من هنا جاءت لفظة "مظلمة" .

فى عام 1933 كان عالم الفيزياء الفلكية السويسرى الجنسية فيرتز زويكى هو أول من لاحظ تأثير المادة المظلمة عندما قام بدراسة حركة العناقيد المجرية التى تحوى بلايين الحشود من المجرات الغير موزعة بإنتظام. وجد زويكى أن حركة المجرات عند حافة العنقود تكون سريعة للغاية بحيث تفسد استقرار و نظام حركة باقى المجرات و تؤدى هذه السرعة الرهيبة إلى تباعد المجرات عن بعضها و تفكك العنقود لا محالة و لكن الغريب و المثير للدهشة أن العنقود مازال متماسكا و لم تخرج أى من مجراته عن مسارها المألوف...و هو ما قاده إلى التفكير فى شئ يحافظ على جاذبية العنقود بعضه لبعض و يمنع تشتته فى الفضاء و إذا بدأنا فى البحث عن مصدر للجاذبية فنقول و بكل ثقة..."فتش عن المادة" ...فأينما وجدت المادة ...وجدت الجاذبية و لكن لسوء الحظ فمادتنا هنا...مظلمة و غير مرئية.



قرص من الغبار الكونى مشدود من عند الاطراف بفعل جاذبية المادة المظلمة


عناقيد من المجرات ترقد فى قلب المادة المظلمة"الهالات الزرقاء"

استمر العلماء فى اقتفاء أثر المادة المظلمة فى أرجاء الكون مستخدمين فى ذلك طرائق عديدة و تقنيات مختلفة، أحدها هو تأثير فيزيائى يعرف بإسم "تأثير عدسة الجاذبيةGravational Lensing" و هو ببساطة أن الضوء القادم إلينا من المجرات البعيدة يعبر خلال مجموعات مجرية عملاقة كبيرة الكتلة تقوم بعمل العدسات الضوئية فينحنى هذا الضوء رغما عنه و يصل الينا لتلتقطه تلسكوباتنا الارضية و تكون النتيجة صور مشوهه!!


العنقود النجمى Abell 1689

هذا التشوه هو نتيجة طبيعية لانحناء الضوء القادم من بعيد فيقاس مقدار زاوية هذا الانحناء القهرى من هنا يمكننا تقدير كتل المجرات التى قابلها الضوء و تأثر بها و أدت إلى تشوهه. لوحظ تأثير عدسة الجاذبية عند إلتقاط صور للعنقود النجمى "أبيل1689" (لاحظ فى الصورة) كان الإنحناء واضحا فى الصورة و كأنها مرت عبر عدسة مكبرة عملاقة فى الفضاء مما لا يدع مجالا للشك بأن الضوء قد تأثر بكتلة أكبر بكثير من كتلة العنقود و بذلك تكون المادة المظلمة هى السبيل الوحيد لملئ هذا الفراغ الكتلى المفقود.


تأثير عدسة الجاذبية

بتطبيق نفس الحسابات و التجارب العملية على مناطق اخرى فى الكون تبين لنا إنه وضع عام و مشترك فى كل المجموعات النجمية الأخرى و على طول الخط... دائما و أبدا ما نجد نفس الكتلة " المفقودة" التى نعلم يقينا بوجودها و لكننا لا نستطيع رؤيتها أو تبين معالمها!!

بعد أبحاث طويلة تخبئ لنا نتائج مذهلة بكل المقاييس و قد يصدقها البعض و يرفضها البعض الآخر و لكنها واقع يجب أن نسلم به؛ وجد العلماء أن ما كل ما نراه من كوننا هذا من مادة و مجرات و سدم و غبار كونى يمثل فقط نحو 4% من نسبة الموجودات فى الكون!! أما عن النسبة 96% الباقية فهى غير مرئية لنا و لم نستطع الإستدلال على وجودها بأى شئ.

طبيعة المادة المظلمة

بحث العلماء مطولا عن ماهية المادة المظلمة ، و انقسموا فى النهاية إلى حزبين متنازعين .الحزب الاول يؤيد أن المادة المظلمة هى مادة عادية جدا تتكون من بروتونات و نيترونات و الكترونات و لكنها من النوع الذى يمتص كل الضوء الساقط عليه لا تعكس و لا تبث أى قدر منه فلا نرى منها شئ.
أما عن الحزب الثانى فهو يؤيد أن المادة المظلمة هى مادة مجهولة أو من نوع جديد غير مألوف بالنسبة لنا...و بالطبع لكلا الحزبين الحق فى إثبات وجهة نظره و من حقنا نحن أيضا أن نؤيد أو نرفض واحد من الحزبين....فلنستمع إذا الى رأى كليهما...فى السطور القادمة.

حزب المادة المعروفة

يرى البعض أن المادة المظلمة قد تكون ثقوب سوداء أو نجوما نيترونية. و الثقوب السوداء لمن لا يعرفها هى رفات النجوم بالغة الضخمة بعد انهيارها تحت وطئة جاذبيتها الداخلية و نفاذ وقودها الهيدروجينى لتتحول فى النهاية إلى وحش كاسر فى الفضاء فتلتهم كل ما يقع فى مجال جاذبيتها القوى ، حتى الضوء نفسه لا يستطيع الإفلات من براثن الثقب الاسود لذلك نقول أنه "أسود" فهو يمتص الضوء و لا يترك لنا البعض منه لنستدل على وجوده . و الجدير بالذكر أن الجاذبية الهائلة للثقب الاسود لم تأت من فراغ بل هى نتيجة طبيعية لكتلته الغير متناهية و المركزه فى قلبه. لم يتوقف اعتقاد حزب المادة المعروفة عند الثقوب السوداء فقط ، هناك أيضا الأقزام البنية و هم ليسوا أقزام بالمعنى الحرفى للكلمة ، فى الواقع هم أقرب فى الشبه بالنجوم لكن لم يكن لديهم المخزون الوافى من الغاز و الغبار لبدء تفاعلاتهم النووية و تحولهم الفعلى إلى نجوم ، كذلك هم ليسوا بكواكب فكتلة القزم البنى تبلغ ثمانين ضعف كتلة كوكب المشترى. المشكلة هى أن الأعداد المتوفرة من الاقزام البنية فى الكون ليست كافية لتغطى الكميات الهائلة من المادة الظلمة فى الكون. هناك أيضا الاقزام السوداء و هى بقايا النجوم الصغيرة و المتوسطة الحجم و هى كثيرة جدا و أعدادها فى الكون لا يعد و لا يحصى و لكنه أيضا ليس بالعدد الكافى لاثبات كونها المادة المظلمة.

حزب المادة الغير معروفة

يرى علماء الفلك أن المادة المظلمة تكونت منذ زمن بعيد من جسيمات ناتجة عن عملية ميلاد الكون أثناء الإنفجار العظيم هذه الجسيمات يطلق عليها إسم " الجسيمات الكتلية ضعيفة التفاعل WIMPS" . و هذه الجسيمات عظيمة الكتلة و يمكن اعتبارها هى المادة المظلمة و ما يزيد من احتمال صحة هذه النظرية أنها مادة ضعيفة التفاعل مع المادة العادية و يتم حاليا العمل على إثبات وجودها فى ظروف معملية معينة تتم تحت الارض لمحاولة تقليل تأثير الأشعة الكونية على ظروف التجربة . ليست ويمبس WIMPS هى الجسيمات الوحيدة المقترحة هناك أيضا "النيترينوNeutrino " و هو أحد الجسيمات الغير مشحونة الناتجة عن عملية التفاعلات الهيدروجينية الداخلية لدى النجوم مثل الشمس و هو يعد مادة مظلمة لأنه من الصعب اصطياده و الامساك به لملاحظته و قياسه و لكن تجرى دراسات حاليا لأكتشاف اذا ما كان هذا الجسيم ذو كتلة أم لا، فاذا ما اكتشف ان له كتلة فهو بذلك يكون مرشح قوى لكونه المادة المظلمة. و نضيف إلى ما سبق من جسيمات
"الأكسيونAxion " و هو جسيم أقل كتلة من الويمبس و لم يثبت وجوده فعليا حتى الآن مجرد افتراض لم يثبت صحته من عدمه و لكنه رغم ذلك مازال أحد الإقتراحات القائمة!

مصير الكون

يمكن اعتبار المادة المظلمة هى اليد الخفية التى تتحكم فى مصير هذا الكون فإما ان يلقى كوننا حتفه متقلصا على نفسه إلى الداخل نتيجة الجاذبية الشديدة للمادة المظلمة أو أن تكون نهايته فى تشتته و تباعد مجراته بعضها عن بعض الى الخارج لأن كمية المادة المظلمة غير كافية لمنع هذا التشتت المأسوى.
ما زال العلماء يحاولون فك طلاسم المادة المظلمة و خباياها العجيبة و محاولة اكتشاف الجيوب الخفية التى تتخبئ فيها داخل المعطف المخملى لهذا الكون.

*تأثير دوبلرDoppler Effect
نختبر تأثير دوبلر فى حياتنا اليومية دون أن نشعر. عندما تمر بنا سيارة اسعاف مسرعة ، نلاحظ اختلاف فى صوت بوق السيارة قبل و أثناء و بعد ان تمر السيارة المسرعة. و نعزى تفسير ذلك الى اختلاف فى تردد الصوت الواصل الينا نتيجة حدوث انضغاط فى الموجات الصوتية حالما تصطدم بنا عندما تقترب السيارة منا، بينما تتسع انضغاطات الموجات الصوتية فى حالة ابتعادها عنا. ينطبق نفس المبدأ مع الموجات الكهرومغناطيسية و الضوء و من ثم الاستفادة منه فى تحديد سرعة حركة المجرات و النجوم و اتجاه حركتها بقياس تردد الضوء الصادر عنها.

الخميس، 22 يوليو 2010

حوار مع أمير النور


أمير النور هو لقبه...

لطالما أنبهر بأشعة الضوء المنسلة من نافذته فى الصباح

و فى قلب الليل المظلم تأمل السماء كان هوايته و متعته

و العلم هو دربه الوحيد




المحاور: نجرى حوار حصرى و غير مسبوق مع عالم عربى مسلم ..اختراعاته و انجازاته غيرت تاريخ البشرية جمعاء...كان عصره هو العصر الذهبى للعلوم ...نتشرف اليوم بلقاء تاريخى مع العالم الجليل أبو على محمد بن الحسن بن الهيثم , أهلا بك معنا فى موسوعة العلوم يا بن الهيثم.

ابن الهيثم: أهلا بك ،أشكرك كثيرا على جزيل ثناءك و مديحك

المحاور: ابن الهيثم ...أسم لامع فى تاريخ العلوم لك الفضل الاول فيما وصلنا نحن له حتى الان فى قرننا الحادى و العشرين من منجزات علمية متعلقة بالضوء و البصريات و لكن دعنا لا نستبق الاحداث فلنعود بالزمن الى الوراء الى القرن التاسع الميلادى ...فلتحدثنا قليلاعن نشأتك.

ابن الهيثم: ولدت فى مدينة البصرة بالعراق سنة 354هـ-965 ميلادية ، نشأت فى عصر غنى بالعلم و المعرفة فانشغلت فى فترة شبابى بالبحث و القراءة و مكثت معظم أوقاتى ما بين المكتبات فى البصرة و بغداد التى كانت عامرة حين اذ بذخائر العلم و المعرفة من كتب و مخطوطات مترجمة عن اليونانية و السيريانية فضلا عن الكتب التى ابدعها العلماء المسلمون ، أخذت أطالع كل ما هو فى متناول يدى فى شتى العلوم و أقوم بأخذ ملاحظاتى و ألخص كل ما هو مفيد.

المحاور: عرف عنك أنك عالم موسوعى فأى التخصصات التى اشتغلت بها و ابدعت؟

ابن الهيثم:كما تعلم انذاك كان معظم العلماء متعددى التخصصات و لم أكن انا بمختلف عنهم فقد تخصصت بالطب و الفلك و الفيزياء و الرياضيات و تبحرت فى المنطق و الفلسفة.

المحاور: عن تخصصك بالطب ، هو لم يكن لمجرد الدراسة و البحث بل كانت لك مهنة و موردا للرزق...

ابن الهيثم: صحيح فقد درست الطب فى بغداد و اجتزت اختبارات ممارسة الطب و أصبحت طبيب متخصص فى الكحالة أو كما تعرفونه اليوم بطب العيون... بالنسبة لى لم تكن مجرد مهنة و لكن فى ذات الوقت عكفت على درسة و تلخيص كتب الطب للعلماء اليونانيين مثل العالم جالينوس كما تعمقت فى دراسة العين فشرحتها تشريحا كاملا بل و وضحت وظيفة كل عضو فيها بالتفصيل.


تشريح العين من كتاب المناظر للحسن بن الهيثم

المحاور: كنت كثير الاسفار و الرحلات و تنقلت بين الكثير من البلاد ، هل كنت تسافر من أجل التجارة أو الاعمال؟

ابن الهيثم: لم يكن لى فى تلك البلاد تجارة و لا أموال ، فما كنت أرتحل من أجله لا يقدر بأموال و لا كنوز، كنت أسافر ساعيا وراء العلوم و المعرفة باحثا عن مرجع سمعت به أو عالما نابغة لأنهل من علمه و معرفته.

المحاور: لقد أصبحت أنت نفسك يا ابن الهيثم مثالا لهذا العالم الذى يسعى اليه طلبة العلم يأتون اليك من كل البلدان لينهلوا من علمك و معرفتك....حدثنا عن طلبتك الذين تتلمذوا على يدك؟

ابن الهيثم: لم أبخل على أحد من تلامذتى بما لدى من علم و معرفة و كشفت لهم أسرار معارفى فى الرياضيات و الفلك و كيفية تطبيق الهندسة فى الفلسفة و المنطق و كنت أبث فيهم حب العلم للعلم و لكنى لم أكن لأقبل تلميذا الا اذا كنت متأكدا من أنه حرصه التام على العلم و استعداده لبذل الغالى و النفيس من أجله و لذلك فرضت عليهم أجره من المال ، و ما كنت أخذه منهم من أجرة أودعه خزانتى و لا أصرف منه دينارا واحدا حتى أنهى مهمتى فى تعليمهم فكنت ارد اليهم اموالهم مرة أخرى.

المحاور: بهذا أنت كنت تعمل بدون مقابل مادى برغم من بذلك مجهود و استحقاقك مقابل له؟

ابن الهيثم: استنكر فى العلم ثلاثة أمور: الاجرة و الرشوة و الهدية، فطيلة حياتى كنت أتبع مذهب واحد " العلم يزداد بالانفاق" و هذا الانفاق ليس انفاق الاموال من اجل العلم لا ، بل انفاق العالم من علمه فذلك زيادة له ، فعلم العالم يزداد اذا علم أخرين ففى ذلك استذكار لما حفظ و انفتاح لما لم يحفظ و أكثر.

المحاور: لقد رحلت عن العراق متوجها الى مصر فهل كنت تبحث فيها عن مرجع أو تسعى وراء عالم نابغة؟

ابن الهيثم:لا لقد سافرت الى مصر بدعوة من الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله و قد بعث الى بالهدايا و العطايا و قد لبيت الدعوة شاكرا.

المحاور: و ما سبب هذه الدعوة السخية؟

ابن الهيثم: عندما كنت فى العراق عرفت الكثير عن نهر النيل هذا النهر العظيم الذى يتدفق من نبعه منذ ألاف السنين من دون أن ينضب و لو كنت بمصر لعملت بنيلها عملاً يحصل النفع في كل حالة من حالاته من زيادة و نقص فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال وهو في طرف الإقليم المصري و قد سمع الخليفة بذلك و قام بدعوتى.

المحاور: و كيف كان استقبال الخليفة لك فى مصر؟

ابن الهيثم: استقبلنى الخليفة و معه لفيف من علماء مصر بالترحيب و الاكرام و بذل من الاموال و الاجهزة الهندسية ما يكفى لكى أبدأ مشروعى لبناء سد يجمع مياه نهر النيل فى أوقات الفيضان .

المحاور: يبدو أن مشروعك هذا كان فكرة حماسية و قتلت فى مهدها اذ لم نرى منه شيئا فى يومنا الحالى؟

ابن الهيثم: صحيح فعلا لم يكتمل هذا المشروع للأسف، فحينما أخذت أجهز للمشروع انطلقت فى رحلة على طول خط نهر النيل متخذا ملاحظاتى و مدونا لأفكارى و حساباتى حتى وصلنا جنوبا الى أسوان فلم أجد ذلك المرتفع الذى كنت متوهما وجوده و تبخرت أحلامى لبناء سد يجمع مياه نهر النيل.

المحاور: دارت أقاويل بأنك أصبت بالجنون لفترة ثم شفيت منه....أكان من السهل أيامكم أن يشفى الانسان من الجنون اذ أننا حتى يومنا هذا لم نجد علاجا للجنون؟

ابن الهيثم (ضاحكا): لا لم أشفى من الجنون ....لأنى لم أصاب به اصلا.

المحاور: لكن كيف أشيعت عنك هذه الفكرة؟

ابن الهيثم:دعنى أشرح لك... بعد فشلى فى تنفيذ فكرة بناء السد ذهبت الى الخليفة معتذرا منه عن سوء فهمى و تراجعى عن أفكارى فما كان من الخليفة الا ان تقبل عذرى و قلدنى منصبا فى أحد الدواوين فى مصر.

المحاور: غريب رد فعل الحاكم بأمر الله ....كما عرفنا عنه من التاريخ هو ليس بالشخصية السهلة التى تتقبل امر كهذا بدون عقاب أو عتاب بل و كافئك بمنصب فى أحد دواوين البلاد

ابن الهيثم: لن أخفى عليك عدم اطمئنانى للخليفة و هدوءه البالغ فى تقبل اعتذارى ، ربما هو يكيد لى مكيدة ، كما أن المنصب الذى وضعنى به لم يكن يتماشى مع طبيعتى كعالم و باحث بل كان يكبت حريتى فى البحث و الاطلاع و التجربة و فى الوقت ذاته لم أستطع رفضه فربما يغضب الخليفة على، فخفت بطشه و لم أجد بدا من أدعاء الجنون.

المحاور: خطة ذكية لتجنب شر الخليفة و كم مكثت على هذا الحال؟

ابن الهيثم: مكثت على موقفى هذا حتى أتانى خبر وفاة الخليفة، فرجعت عن ادعائى الجنون.

المحاور: اذن فى فترة ادعائك الجنون و بالطبع فقدانك المنصب الذى قلدك ايها الحاكم بأمر الله لابد و أنها كانت من أقسى فترات حياتك

ابن الهيثم: لا بل على العكس تماما لقد كانت هذه الفترة هى أغزر فترات انتاجى الفكرى،خلال هذه الفترة حدد الخليفة اقامتى فى منزلى و ما استطعت الخروج منه فقد جعل منه سجنا لى و وضع بعض من حراسه على بابى و صنعوا فيه ثقبا لمراقبتى!!

المحاور(مندهشا): يا ألهى!! أوصل غضب الخليفة عليك الى هذا الحد؟ كيف تقول اذن انها أغزر فترات حياتك من حيث الانتاج الفكرى؟

ابن الهيثم: لقد كان الثقب الذى صنعوه فى بابى هو مركز تأملاتى و منبع الهامى الفكرى.

المحاور(ضاحكا): انه مجرد ثقب كيف يكون منبع أفكارك؟

ابن الهيثم(مبتسما): أخذت أتأمل الضوء الداخل من ثقب الباب و كيف يسير مثل الحزم فى خطوط مستقيمة و ينعطف عند طرف الثقب و ينتشر فى أرجاء الغرفة و قد كان ولعى بالضوء كبيرا فوضعت قوانين انتشار الضوء و أنعطافه كما تعمقت فى دراستى للعدسات الضوئية و قوة تكبيرها و أجريت تجاربى على المرايا الدائرية و القطعية. فعكفت على التجربة و التأليف و شرعت أعمل على كتابى المناظر.


كتاب المناظر
المحاور: المناظر هو من ابدع الكتب التى الفتها يا بن الهيثم و ترجمته الى اللغة الاتينية كان لها الفضل فى حمايته من الضياع مثل الكثير من اعمالك التى لم نستطع العثور عليها و لولاه ايضا ما استطاع علماء الغرب من بعدك أمثال نيوتن و كبلر أن يسيروا على خطاك و يكملوا ما بدأته أنت فبكتابك هذا أصبحت مؤسسا لعلم البصريات ...
ابن الهيثم: يسعدنى معرفة ان هناك من مشوا على دربى و توصلوا الى ما لم أستطع التوصل اليه فى زمنى بامكاناته المحدودة انذاك
المحاور: قد تكون امكانيات زمنك محدودة و لكنك نجحت فى وضع قواعد كانت هى حجر الاساس فى الكثير من مخترعات زمننا هذا و أبسط مثال على ذلك هى الكاميرا.

ابن الهيثم: برغم من شعورى بالاطراء من كلامك هذا الا اننى لم أفهم تماما ما هى هذه الكاميرا التى يرجع الى الفضل فى اختراعها؟

المحاور: أنت بنفسك يا ابن الهيثم سوف تجاوب على سؤالك هذا... عندما تشرح لى فكرة الحجرة المظلمة أو القمرة كما أطلقت عليها

ابن الهيثم: أفهم من كلامك هذا ان الكاميرا هى تطور للقمرة فى زمانكم؟

المحاور: نعم هى كذلك و من زمننا هذا ننحى لك احتراما على فكرتك الهائلة التى لم نكن لنعرفها بدونك

ابن الهيثم: أشكرك و لكن دعنى أوضح لك فكرتى عن القمرة و التى وضعتها فى كتابى المناظر، القمرة كمبدأ عمل هى حجرة صغيرة من الخشب فى أحد جوانبها ثقب صغير عندما يدخل ضوء من خلاله تتكون صورة للجسم مصدر الضوء على الحائط المقابل للثقب داخل الحجرة المظلمة و لكن تكون الصورة المتكونة مقلوبة و من المثير للاهتمام ان هذه الفكرة هى نفسها فكرة عمل عين الانسان.


القمرة

المحاور: تماما هذه هى فكرة عمل الكاميرا لدينا و لكن مع اختلافات فقد تطورت لدينا الفكرة للاحتفاظ بالصورة المتكونة بالداخل و من ثم ابتكارنا تقنية التصوير.دعنا الان ننتقل من رحلتك الى مصر ، الى رحلة أخرى...رحلتك للبحث عن الحقيقة...رحلتك التى وضعت فيها أسس المنهج العلمى

ابن الهيثم: طوال رحلة حياتى كنت على اقتناع تام بأنه اذا اراد الانسان أن يثبت صحة اعتقاد أو فكرة لديه، فعليه بالتجربة فاذا أتت التجربة بالنتائج المرجوة فمعنى ذلك هو صحة الاعتقاد أو الفكرة ،انما لا يصح ان نؤمن بفكرة دون اثبات صحتها بالتجربة.

المحاور : و كيف تثبتت لديك هذه لرؤية؟

ابن الهيثم: عندما بدأت رحلتى مع الضوء و علم البصريات، كان لابد لى أن أبدأ من حيث انتهى السابقون ، فبدأت أقرأ مخطوطات اليونانيين و نظريات بطليموس عن الضوء و خصائصه و بالأخص نظريته عن عملية الابصار و من هنا بدأت نقطة الخلاف.

المحاور: ألم تخف من معارضة نظريات و قوانين هى بمثابة حقائق راسخة منذ مئات السنين ؟

ابن الهيثم: لا بل على العكس تمام ، كنت متأكد من صحة موقفى و ذلك لاعتمادى على أهم عنصر فى البحث العلمى و هو التجربة.

المحاور: اذن ما هى نقطة الخلاف لديك مع النظريات السابقة فى الابصار؟

ابن الهيثم: كان من المعتقد قديما أن عملية الابصار تتم عن طريق شعاع من الضوء يخرج من العين ليسقط على الجسم فنراه.

المحاور : و ماذا عن نظريتك المعارضة؟

ابن الهيثم: لم يكن لدى شك فى ان عملية الابصار تتم عن طريق وقوع الضوء الصادر من الجسم على العين فنراه و ليس العكس على الاطلاق

المحاور: و كيف أثبتت ذلك بالتجربة؟

ابن الهيثم: التجربة غاية فى البساطة، حاول أن تفتح عينيك فى الظلام ، ماذا يمكنك أن ترى؟

المحاور : لا شئ بالطبع مهما حاولت.

ابن الهيثم: بالضبط، اذن أين هو شعاع الضوء الذى يخرج من عينك فى هذا الموقف و لماذا لم يخرج ليمكنك من الرؤية فى الظلام؟ نعم لأنه غير موجود من الاساس.

المحاور: لقد أبهرتنى يا ابن الهيثم بطريقة التفكير المنطقى الذى تتبعه، و من هنا اثبتت أن نظريات بطليموس لم تكن مبنية على تجارب عملية تثبتها...و ماذا عن تجاربك فى علم الفلك ؟

ابن الهيثم: أثبت بالتجربة أيضا أن القمر ليس مضيئا بذاته بل هو عاكسا لضوء الشمس الساقط عليه ليس هذا فحسب أيضا فسرت الخطوط التى تظهر على وجه القمر و أرجعت سببها الى ان تربة القمر تتكون من مواد عديدة فتختلف بحسب نسبة امتصاصها و عكسها للضوء الساقط عليها فتظهر الخطوط بهذا الشكل كما فسرت ظاهرتى الكسوف و الخسوف و ظاهرة قوس قزح تفسيرا كاملا.

المحاور: أذكر ايضا أنك صححت بعض مواضع الخطأ فى كيفية الرصد و مواضع الكواكب و غير ذلك الكثير فقد بلغت مؤلفاتك فى علم الفلك الى 20 مخطوطة و أكثر

ابن الهيثم :هذا صحيح فقد تعمقت فى دراساتى الفلكية الى حد بعيد و تعلق بصرى بالسماء ليس شرود بل هو تدبر و تفكر فيما يقع فوق رؤسنا من ظواهر عظيمة نفهم بعضها و نجهل البعض الاخر فلا يصح أن تكون بالنسبة لنا مجرد ظواهر تحدث فنراها

المحاور: لك كل الحق نحن نرى من حولنا الكثير و لكننا لا نقف لنتفكر فيها و لكن يا ابن الهيثم نظرتك لظواهر مثل قوس قزح و الكسوف و الخسوف كانت نظرة مختلفة ليس نظرة هاو ينظر الى السماء حتى ظاهرة الشفق... الشفق الاحمر الجميل الذى نراه عند غروب الشمس لم يمر عليك مشهد الشفق دون تفكر منك فالشفق بالنسبة لأى شخص عادى قد يعنى أنه قد حان الوقت لقيلولة قصيرة أما بالنسبة لك فالنظرة كانت مختلفة.

ابن الهيثم: نعم لطالما جذب الشفق انتباهى....كنت أعرف أن ظاهرة الشفق تحدث فقط عندما تكون أشعة الشمس على زاوية بمقدار 19 درجة اسفل خط الافق....لماذا اذن لا نستفيد بهذه المعلومة؟

المحاور : و كيف لك ان تستفيد من معلومة كتلك؟

ابن الهيثم: الامر بسيط يمكننى أن أحسب ارتفاع الغلاف الجوى للأرض بهذه المعلومة البسيطة...و قد قمت بعمل حساباتى و توصلت الى ان ارتفاع الغلاف الجوي يبلغ نحو 50 كيلومترا

المحاور(مندهشا): بالفعل هى نفس النتيجة التى توصل اليها علماء اتوا من بعدك بقرون من الزمن مع اختلاف الامكانيات التكنولوجية الا ان النتيجة كانت واحدة لقد دوما سباقا يا بن الهيثم...حتى فى علم الميكانيكا و حركة الاجسام فان اكتشافك للقانون الاول للحركة كان قد سابقا لاكتشاف نيوتن له...

ابن الهيثم: بالنسبة لحركة الاجسام فقد اكتشفت العديد من النقاط أولها أن أى جسم متحرك سوف يظل متحركا ما لم تقم قوة بوقفه أو تغير اتجاهه...

المحاور : بالضبط هذا هو قانون نيوتن الاول للحركة...

ابن الهيثم: كما وجدت أيضا أن حركة أى جسم قد تكون شئ من أثنين أما "الحركة الطبيعية" و هى حركة الجسم نتيجة سقوطه تحت تأثير وزنه..

المحاور: أظن هذا ما نطلق عليه اسم السقوط الحر

ابن الهيثم: هو كذلك أما النوع الثانى من الحركة فهى "الحركة العرضية" و هى حركة الجسم نتيجة تأثير قوة خارجية عليه.

المحاور: مهما حاولنا ان نتحدث عن كل انجازاتك و مؤلفاتك فلن نستطيع ان نغطيها كلها حتى و لو فى مئة حوار ....لقد استمتعت بهذا الحديث الشيق يا بن الهيثم و أتمنى أن يصبح كل علماء اليوم مثلك .

ابن الهيثم: أشكرك و أتمنى أن يحب الناس العلم و يجعلوا المعرفة هى غايتهم و كما قال الرسول صلى الله عليه
و سلم"و ان العلماء ورثة الانبياء".

المحاور: شكرا أعزائى القراء و نتمنى أن تكونوا قد أستفدتم و استمتعتم بحديثنا الشيق مع أمير النور العالم المسلم الحسن بن الهيثم و انتظروا حوارنا القادم مع عالم أخر و انجازات أخرى و السلام عليكم و رحمة الله.

نهاية الحوار

ملحوظة: كما لاحظتم من هذا الحوار، فهو حوار من صنع خيالى و لكن كل ما ورد به من معلومات صحيحة تماما و قد جمعتها من العديد من المصادر و الهدف من هذا الحوار هو إلقاء الضوء على انجازات علماءنا المسلمين الذين غيروا العالم و برغم من ذلك لا نعرف عنهم أى شئ أما عن الهدف من وضع هذه المعلومات فى صورة حوار فكان من أجل الخروج عن النمط التقليدى فى الحديث عن السيرة الذاتية للعلماء و سهولة وصول المعلومة للقارئ بشكل أكثر تشويقا.

معلومة أخيرة: توفى الحسن بن الهيثم سنة 1039 ميلادية







الصفحات